في هذا المقال سنلقي الضوء على أصل من أصول الشعر الفنية : ( المبالغة ) والتي يعُدها بعض النقاد أنها تنافي الحقيقة والصدق والواقع ، ولذا ينادون بنبزها وتجنبها ، ولا يفهمون طبيعة الشعر… فالشعرُ في أصله تعبير عن العاطفة ، وترجمان لها ، ومن ثم ينبغي له أن ينساق انسياقاً في ثورتها ، أو هدوئها . وأرى أن الشعر لا يعبِّر عن العقل فقط ، فليس من المنصف أن ننادي بصحة الفكرة ودقتها ، كما يُطلب ذلك في بعض العلوم الأخرى كالرياضيات وغيرها ، ونحسب أن المقولة القديمة المشهورة : ( أعذب الشعر أكذبه ) نحسب أنها لم تقال اعتباطاً . أو كما قال البحتري :
كلفتمونا حدود منطقكم # والشعرُ يُغني عن صدقه كذبه
والرأي عندي أن المبالغة مظهر من مظاهر الأسلوب في الشعر ، تركز في ذلك على ما يبدعه الشاعر من خيال ، لأن الأثر الأدبي من غير خيال يصبح حاله كحال النظم الذي فقد التعبير عن الإحساس والعاطفة . وأوجه المبالغة في الأساليب العربية ، شعرها ونثرها ، تبدو فيما نرتضيه من تشبيه ، واستعارة ، ومن مجاز ، إلى غير ذلك من هذه الألوان البيانية التي تخضع للخيال في صورها المختلفة ، وتشغل مجاله الخصيب .
مع ذلك : فمن هذه المبالغات ماهو جميل مستساغ ، ومنها ماهو قبيح غير مستساغ . وقد خاض نقاد الأدب من قديم في هذه المسألة ، وتباينت آراءهم فيها ، هذا ولقد أعجبهم قول زهير بن أبي سُلمى :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم # قوم بأحسابهم أو مجدهم قعدوا
فإن هذا القول أعجبهم لأن الشاعر بلغ ما أراد من الإفراط ، واحتاط فيه ، فبنى كلامه على صحة حين قال ( لو كان ) وفي ذلك احتياط حَسن . ومن هذا القبيل قول أبي نوَّاس :
وأخفت أهل الشرك حتى أنه # لتخافك النطف التي لم تُخلق
فمن السهل أن ترى ظاهر هذه المبالغة مايؤدي بها إلى الإحالة ، لكن الشاعر قد احتاط لئلا يكون محيلاً ، ذلك في قوله : ( لتخافك ) يريد ُ : ( لتكاد تخافك ) والشعراء تسقط ” تكاد ” في الشعر وهي تريدها . وجاء في القرآن المجيد : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) ومنه : ( وبلغت القلوب الحناجر ) أي ” كادت” .
هذا ومن أعاب على أبي نوّاس قوله ( وأخفت ) لم يذهب إلى تقدير ” تكاد ” . فالشاعر جعل مالم يُخلق يخاف الممدوح .
أرى أن المبالغة ضرورية لجمال الشعر ، لكن على ألاَّ تتجاوز المعقول ، فتبعد بالعبارة عن الصدق بُعداً لا يفيد في تمكين المعنى وتوضيحه ، ولايفيد في تصوير العاطفة وإبرازها ، بقدر ماهو يميل بالعبارة إلى الإحالة ، وبمثل هذا البُعد ، وهذه المُجافاة للتعبير يكون بُعد العبارة عن القبول والإستساغة .
* أبيات الاستشهاد : ديوان البحتري ، زهير ، أبي نواس .